شدّني القدرُ سهماً في قوسه الزمني، وأطلقني في رحب عشواء، بلا هدفٍ سوى الفراغ الذي يتسع للعدم كله، وبلا نهاية إلا تلك التي يلبسها الموت قناعاً وهو جالس على جرف الهاوية كأن لا شغل له سوى انتظاري. حين مددت رجلي لأول مرة حافياً على الجمر أدركتُ أن درب الوصول إلى الغايات السعيدة ليس بالضرورة يجب أن يمرّ من هنا. وحين طفوتُ على الماء في سفينٍ هشّ، قالت لي العاصفة: سيكون رثّاً مآلك إذا أبحرت من دون هدى وتركت للريح أن تغير مجراك كما تشاء. وحتى لو نزلت في جزيرة نائية وطاب لروحك البُعدُ، لن تجد هناك الخلاص الذي ترجوه، وإنما الوحشة التي لا تُستطاب نارها، والوحدة الجائعة التي ستظل تئنُّ في صمتك حتى لو أطعمتها كبدك.
الحياة دراجة هوائية قال لي الشاعر. اصعدها وانطلق في المنحدرات مدفوعاً مرة ضد تيار الريح، ومرة معه. ولا بأس لو سقطت ألف مرة ما دمت ستتعلم الدرس بأن النهوض من جديد هو الذي يعينك على هزيمة المسافة، وهو الذي يرجّحُ قواك عندما تتصارع مع الوقت تحاول أن تسبقه، ويحاول الوهنُ أن يثنيك. وما يقوله الشعراء مزحاً، هو في الحقيقة صورة لحياة أخرى متخيلة يكونُ فيها البشرُ أحراراً من قيد المكان، وأسياداً على مصائرهم. وما لا يفعله الشعراء، هو الركونُ إلى الوهم، أو جعلُ النسيان كتاباً للذكريات الآتية.
في الفكرة التي اسمها الحب، ينبغي أن نقيم العمر كله. هكذا قال العاشق للجالسين من حوله في درس الأمل. لكنهم رجموه بالمناديل الغزيرة بالدموع، واشتكى جُلّهم من قسوة الفراق بعد عناق. ووقف رجلٌ كهلٌ متكئاً على عصاه وقال: أقعدني الحبُ في الذكريات حتى صرت سجيناً للماضي. لا أبارح مكاني، ولا أرى في الأفق متسعاً بعد رحيل من أحببت. لكن العاشق أخرج من جيبه رسائل عشيقاتٍ كُثر وأطلقها باتجاه القمر فامتلأت السماء بالنجوم. ومن وراء الجبال البعيدة عوت الذئابُ لتعلن للغزلان قدومها. ثم ركب العاشقُ على ظهر نسرٍ وقال لهم: من أراد الحرية فليتبعني. ولم يبق له من أثرٍ سوى الحيرة التي تركها في القلوب. تلك الحيرة القاتلة، عندما لا تعرف من أنت؟ وما هي الحرية؟ وهل الحب حصانك للأمل، أم أنه العواء الذي تُطلقه ليلاً كلما نهشتك الغربة، وعضّتك ذئابها.