يحلو لي أحياناً أن استمع إلى بعض مشاهير الشعراء الذين بدأوا قصائدهم منذ الستينيات إلى هذا التاريخ الراهن، من خلال تسجيل صوتي على الأقراص التي انتشرت بكثرة وبعض الدواوين القديمة التي أعيدت طباعتها مرات ومرات، والتي تكتظ بها مكتبتي. واشتهروا في أوطانهم العربية والعالمية، ونالوا الجوائز والتكريم، وترجمت قصائدهم إلى أغلب لغات العالم. فلا أجد ما يثير دهشتي وإعجابي، أو يوقظ في نفسي وذاكرتي الشعرية شهية كتابة نص شعري جديد. فأغلب ما أسمع وما أقرأ من القصائد تشبه مقالاً توزع بشكل عمودي ليبدو للقارئ أنه قصيدة! فلا عمق فلسفياً، ولا رؤيا تنبئ بما سوف يحدث، ولا اختزال يوحي بمعانٍ خفية تثير انتباه القارئ أو المستمع في البحث عن المعنى الخفي للنص الشعري، حين تكون القصيدة مجرد سرد مستطرد وتفصيلي ومطول! ألا يشبه القارئ أو المستمع في أمسية شعرية أو تسجيل صوتي للقصيدة، القارئ لخبر مطول في جريدة ؟!
لماذا اختلط والتبس مفهوم الحداثة الشعرية، وحرية الخروج على إيقاعها الغنائي أو الدلالي أو الاختزالي منذ ستينيات القرن الماضي، على الشاعر في كتابته للنص الشعري، حتى اعتقد أن الشعر أو القصيدة يمكنها أن تعبر عن هذه الحرية والحداثة إذا كتبت سرداً، مطولاً وتفصيلياً، ودون انتباه إلى أن هذا الاستطراد السردي والتفصيلي والإطالة، تثير ملل القارئ والمستمع، وشرود انتباهه للقصيدة، مما يثير الرغبة لدية للانشغال بالأجهزة الإلكترونية كالموبايل والشبكات التي دعيت بالتواصل الاجتماعي، كـ«الواتسآب» و«الفيس بوك» و«التويتر». بل إنني أتذكر تماماً، حين أحضر أمسية شعرية ما، أن الكثير من الحضور يتسللون خارج القاعة، عندما يستطرد الشاعر في إلقاء قصيدته المطولة، سواء كانت عمودية، أم نثرية حداثية كما يعتقد الشاعر دون انتباه للخلط بين النثر والسرد والاختزال والإطالة.
جون كوين في كتابه «اللغة العليا» يستعرض العديد من النظريات النقدية القديمة والحديثة حول الشعر. وهو يعرِّف الشعر بأنه قوة ثانية للغة، وطاقة سحر خفي وافتنان! لكننا نرى اليوم كثيراً من الشعراء يعالجون القصيدة كما لو أنها تجزيء لخطاب سردي، أما الخطاب السردي فإنهم يعتبرون أنه يمكن أن يجزأ إلى نصوص صغيرة أو مطولة. وهنا ينبغي ملاحظة الالتباس الذي ساد مفهوم الشعر عند المثقفين والشعراء الجدد بعد انتشار تيار الحداثة، فأغلب النصوص هي تجزيء للخطاب السردي. ولكن إذا كان الشعر ليس سوى نثر للغة مضافاً إليها وعي الشاعر وتأملاته في الوجود، فإن سر شاعرية الروح والخيال يكمن في هذه الإضافة!